مقدمة
منذ عام 2003 وحتى اليوم، شكّلت العملية السياسية في العراق الإطار الناظم للحياة الديمقراطية، لكنها في الوقت نفسه كانت مصدرًا رئيسيًا للتحديات التي واجهتها الحكومات المتعاقبة. فبينما كان الهدف منها هو بناء دولة مؤسسات ديمقراطية قائمة على التداول السلمي للسلطة، فإنّ نتائجها في كثير من الأحيان أدّت إلى انقسامات، وصراعات داخلية، وإلى حالة من عدم الاستقرار الحكومي.
تتداخل في هذه العملية عوامل طائفية، حزبية، ومصلحية، أثّرت بشكل مباشر على كفاءة الحكومات وقدرتها على الحكم المستقر، مما جعل العراق يعيش حالة من “الاستقرار الهش” الذي يتأرجح بين التوافق والتفكك.
أولاً: مفهوم العملية السياسية في السياق العراقي
العملية السياسية العراقية تقوم على نظام ديمقراطي برلماني اتحادي، يعتمد على مبدأ التوافق والمشاركة بين المكوّنات. هذه الصيغة، التي جاءت بعد سقوط النظام السابق عام 2003، هدفت إلى ضمان تمثيل جميع الأطياف العراقية في الحكم، ومنع عودة الدكتاتورية أو احتكار السلطة.
لكن هذا النظام التوافقي، على الرغم من نواياه الإيجابية، أدّى في الممارسة العملية إلى تشظي السلطة، وتوزيعها بين أحزاب ومكوّنات، لكل منها أجندته الخاصة، وهو ما جعل تشكيل الحكومات عملية معقدة وطويلة، وأضعف القدرة على اتخاذ القرار الموحد.
ثانيًا: العلاقة بين العملية السياسية والاستقرار الحكومي
1. مبدأ المحاصصة وأثره على استقرار الحكومات
من أبرز سمات العملية السياسية في العراق اعتمادها على المحاصصة الطائفية والحزبية. هذا المبدأ جعل الوزارات تُوزَّع كحصص بين الكتل السياسية، وليس وفق الكفاءة أو البرامج.
النتيجة أن كل حزب بات يمتلك “جزءًا من الدولة”، يتعامل معه كملك خاص أو مصدر تمويل، مما خلق حكومات غير منسجمة داخليًا، تفتقر إلى الرؤية الموحدة وتتنازعها الولاءات المتعددة.
وهذا بدوره أدى إلى:
- ضعف الانسجام بين أعضاء الحكومة.
- بطء اتخاذ القرارات المصيرية.
- تكرار الأزمات الوزارية والاستقالات.
- انهيار الثقة بين الشارع والطبقة السياسية.
2. غياب المعارضة البرلمانية الفاعلة
في الأنظمة الديمقراطية المستقرة، تكون المعارضة جزءًا أساسيًا من توازن الحكم. لكن في العراق، غالبًا ما تشارك جميع القوى السياسية في الحكومة عبر نظام “التوافق”، مما يُلغي مفهوم المعارضة الحقيقية.
هذا الوضع جعل البرلمان منبرًا للصراع السياسي الداخلي أكثر من كونه جهة رقابية وتشريعية، وأضعف آليات المحاسبة، ما سمح بتمدد الفساد، وغياب المساءلة، وتكرار الفشل الإداري دون إصلاح فعلي.
3. الانقسام الحزبي والشلل السياسي
تتألف الخارطة السياسية العراقية من عشرات الأحزاب، كثير منها يمثل مكوّنًا أو تيارًا بعينه.
هذه الكثرة خلقت حالة من التفتت البرلماني، وصعوبة التوصل إلى أغلبية سياسية واضحة، مما أدى إلى تأخير تشكيل الحكومات لأشهر طويلة (كما حدث في انتخابات 2010، 2018، و2021).
النتيجة: حكومات تُبنى على الترضيات وليس على البرامج، وهو ما يهدد الاستقرار الحكومي ويضعف الأداء التنفيذي.
4. التدخلات الإقليمية والدولية
العراق، بحكم موقعه الجيوسياسي، يتأثر بشكل مباشر بصراعات المنطقة ومصالح القوى الكبرى.
العملية السياسية لم تكن بمعزل عن هذه التدخلات، حيث دعمت قوى خارجية أطرافًا داخلية بعينها، مما زاد الانقسام بين المكوّنات العراقية.
وعندما تتبدل مواقف تلك الدول، ينعكس ذلك فورًا على المشهد الداخلي، فيضعف الحكومة أو يعرقل مشاريعها، وهو ما يُظهر هشاشة الاستقرار السياسي في العراق.
5. الاحتجاجات الشعبية وضغط الشارع
الخلل في بنية العملية السياسية أدى إلى تآكل الثقة الشعبية بالحكومة.
شهد العراق خلال العقدين الماضيين موجات احتجاج متكررة، كان أبرزها حراك تشرين 2019، الذي طالب بإصلاح شامل للنظام السياسي، وإنهاء المحاصصة والفساد.
هذه الاحتجاجات ساهمت في إسقاط حكومات وتغيير أخرى، ما يعكس تأثير العملية السياسية غير المستقرة على الاستقرار الحكومي والاجتماعي في آنٍ واحد.
ثالثًا: النتائج المترتبة على هشاشة العملية السياسية
- تغيّر الحكومات دون تغيّر السياسات: كل حكومة تأتي ببرنامج جديد نظريًا، لكنها تواجه نفس العقبات البنيوية التي تعرقل التنفيذ.
- تراجع الأداء الإداري والخدمي: بسبب انشغال القوى السياسية بتقاسم السلطة بدلاً من تحسين الأداء.
- ضعف ثقة المواطن: ما يخلق فجوة بين الشعب والنظام السياسي، ويجعل الاستقرار هشًّا يعتمد على التهدئة وليس على الرضا الشعبي.
- تعطّل التنمية والاستثمار: لأن غياب الاستقرار السياسي يجعل العراق بيئة غير مشجعة للمشاريع طويلة الأمد.
رابعًا: فرص الإصلاح نحو استقرار حقيقي
رغم التحديات، هناك فرص لإصلاح العملية السياسية إذا توفرت الإرادة الوطنية:
- تعديل قانون الانتخابات بما يتيح صعود قوى جديدة تمثّل المواطن وليس المكوّن.
- إلغاء المحاصصة الحزبية واستبدالها بمبدأ الكفاءة المهنية.
- تفعيل المعارضة السياسية لضمان التوازن والمساءلة.
- إصلاح القضاء وتعزيز استقلاليته ليكون الحكم بين القوى السياسية.
- إطلاق حوار وطني شامل يعيد تعريف العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن.
- حصر السلاح بيد الدولة لضمان سيادة القرار الحكومي دون ضغط من القوى المسلحة.
خاتمة
العملية السياسية في العراق هي مفتاح الاستقرار الحكومي، لكنها أيضًا مصدر التحدي الأكبر أمامه.
فمن دون إصلاح جذري يطال بنيتها القائمة على المحاصصة، ومن دون تعزيز دولة المؤسسات والمواطنة، سيبقى العراق يدور في حلقة من الحكومات المؤقتة، والاستقرار الهش، والاحتجاجات المتكررة.
إن بناء استقرار حكومي حقيقي يبدأ من إعادة تعريف العملية السياسية نفسها لتكون وسيلة لبناء دولة قوية، لا مجرد أداة لتقاسم السلطة.



d.

1)